التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
بعد أن اتسعت فتوحات الدولة العثمانية، شعرت الدولة بضرورة البحث عن مصدر جديد للجنود، فكان نظام الديوشيرمة هذا، فجرى تطبيقه ثم إقراره وتقنينه.. فما قصة
بعد أن انتقل العثمانيِّين إلى الأراضي الأوروبِّيَّة وتضاعفت فتوحاتهم وزادت حاجتهم إلى الجنود، اتَّجهوا إلى الاستفادة من أسرى الحرب، ونزولًا على اقتراح بعض الفقهاء اختار السلطان مراد الأول العثماني بعض الأطفال من الأسرى وأدخلهم في الجيش العثماني وجعل لذلك قانونًا، فشكَّل هؤلاء الأطفال فيما بعد نواة ولب الجيش الذي كان القوَّة الضاربة للدولة العثمانيَّة لعصور عديدة.
من الديوشيرمة؟
المقصود بالديوشيرمة: هي ضريبة آدميَّة فرضتها الدولة العثمانية على رعاياها النصارى، فكانت تقوم بجمع الأطفال النصارى، وتُربِّيهم تربيةً إسلاميَّةً تمهيدًا لاستخدامهم في المناصب الإداريَّة والعسكريَّة فيما بعد، وعُرفت هذه الضريبة بمصطلح: «الديوشيرمة» أو «ضريبة الغلمان» [1]، وقد ورد لهذا المصطلح معانٍ أخرى منها: الجمع والاقتطاف [2]، وقد سمَّاها بعض المؤرخين «الدفشرمة» [3].
قصة الديوشيرمة
تعود بداية فرض الديوشيرمة إلى فترة حكم السلطان مراد الأول وذلك بعدما اقترح عليه بعض الفقهاء ذلك لحاجة الدولة لهذه الضريبة [4]، فكان موظفو الدولة العثمانيَّة يطوفون على القرى المسيحيَّة التي تحت رعايتها بهدف جمع كافَّة الغلمان [5]، الذين تتوفَّر فيهم اللياقة البدنيَّة والمهارة [6]، ومِنْ ثَمَّ اختيار أصلبهم عودًا لتجنيدهم في خدمة السلطان، وذلك بعد إسلامهم وتدريبهم بعنايةٍ فائقة، وتربيتهم تربيةً إسلاميَّة [7]، وقد كانوا يُجمَعون على فتراتٍ متباعدة؛ مابين ثلاث وخمس سنوات [8]، وكان يؤخذ من الأسرة عن كلِّ خمسة أولادٍ واحد، وكانت تتراوح أعمارهم بين العاشرة وخمسة عشر سنة [9]، وقيل بين الرابعة عشرة والثامنة عشر [10]، وقيل غير ذلك.
وقد كانت المؤسَّسة التي تعمل على جمع هؤلاء الأطفال بمثابة "المدارس الداخلية" في زماننا، وكان يتسابق الأهالي النصارى في إلحاق أبنائهم، على عكس ما يزعم بعض المؤرخين الغربيِّين؛ وذلك تطلعًا إلى تغيير حياة أبنائهم إلى الأفضل؛ لأن مدراس «الديوشيرمة» كانت تجمع المتفوِّقين فقط في مجال معيَّن في طفولتهم ليعيشوا فيها معيشةً كاملةً تُربِّيهم فيها على أمورٍ يُمكن أن تُفيد مستقبل حياتهم ويلتحقوا بعدها بوظائف رفيعة المستوى.
كان هؤلاء الأطفال في أوَّل الأمر يُجلبون من ألبانيا واليونان وبلغاريا والصرب والبوسنة والهرسك والمجر، وفي القرن الخامس عشر كانوا يُجمعون من رعايا الدولة العثمانيَّة المسيحيِّين في الأناضول ثم في القرن السابع عشر كانوا يجمعون من جميع أرجاء الدولة العثمانيَّة [11]، وكان بعضهم يعمل في المناصب الإداريَّة في الدولة في حين كان الباقون يلتحقون بصفوف قوَّات الإنكشارية كوحدات محاربة مع الجيش العثماني [12]، حتى بلغوا بمضي الأيَّام أرقى المناصب: صدور عظام (رؤساء الوزارة)، ووزراء، وقادة عسكريِّين [13]، وقد تفردت لدولة العثمانية في ذلك حيث إنها رسخت لمبدأ التساوي والبعد عن العنصرية والفرقة، فلم يهتم السلاطين بضرورة تولي العنصر التركي فقط المناصب الهامة ولم تهتم بأصول أو أجناس هؤلاء القادة، وهذا يعد -خاصة في هذا الوقت- قمة التسامح والتعايش الإنساني.
الديوشيرمة فرصة لا يحظى بها الجميع
لم تكن هذه المدارس "الديوشيرمة" مفتوحة لكلِّ الناس؛ إنَّما لأصحاب المواهب فقط؛ فالعدد فيها محدود، وهي لا تستطيع أن تربي أطفال الدولة كلها، ولهذا يحدث الانتقاء من المتقدِّمين؛ فالأمر على عكس ما يُتصوَّر تمامًا، فالمراجع الأوربية تصور العائلات على أنها تهرب من هذه "الضريبة"؛ بينما الحقُّ أنَّها كانت تتنافس على هذه "الفرصة"!
وقد منع من الالتحاق بها فئات عديدة ولأسباب شتَّى، منهم: الابن الوحيد للعائلة، واليهود، ورعاة البقر والمواشي، والأمرد، والأصلع، والمولود مختونًا، وصاحب الصنعة، والذي يعرف اللغة التركيَّة، والذي سبق وأن زار إسطنبول، والطويل جدًّا، والقصير جدًّا [14]، واستمرَّ الأمر على هذا المنوال في جمع الأطفال إلى أن ألغى السلطان العثماني أحمد الأول [1603- 1617م] هذا النظام [15].
[1] عبد العزيز محمد الشناوي (1980) الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1/120، وكواترات: الدولة العثمانية 1700-1922م، تعريب: أيمن الأرمنازي، مكتبة العبيكان، الطبعة العربية الأولى، ص77، 78.
[2] حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1425هـ= 2004م، ص60.
[3] بيتر شوجر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804 (في أصول الصراع العرقي في الصرب والبوسنة)، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م، ص73.
[4] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، 2008، ص71.
[5] كواترات: الدولة العثمانية 1700-1922م، ص78.
[6] حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، ص60.
[7] كواترات: الدولة العثمانية، ص78.
[8] كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص76.
[9] حسان حلاق/ عباس صباغ: المعجم الجامع في المصطلحات الأيوبية والمملوكية والعثمانية ذات الأصول العربية والفارسية والتركية، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الأولة، 1999م ، ص94، 95.
[10] كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص76.
[11] حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، ص60، وأحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص76.
[12] كواترات: الدولة العثمانية، ص78.
[13]عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، 1/ 487، نقلًا عن: Lybyer A.H. ; op. cit, pp. 45- 47.
[14] كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، 76.
[15] حسان حلاق/ عباس صباغ: المعجم الجامع في المصطلحات الأيوبية والمملوكية والعثمانية ذات الأصول العربية والفارسية والتركية، ص95.
التعليقات
إرسال تعليقك